ميقاتي الذي لا يخفي "جرحه وإحباطه" ممّا حصل: لقد ظُلمت كثيراً وتلويحي بالاعتكاف كان ضرورة
الخميس، ٣٠ آذار، ٢٠٢٣
النهار - ابراهيم بيرم
ربما أخطأ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عندما مضى قدماً في خيار إبقاء العمل بالتوقيت الشتوي وتأجيل العمل بالتوقيت الصيفي، وربما انزلق بفعل حسابات وإغراءات معيّنة الى مربّع يصير فيه متهماً بالنيل من شريحة واسعة وازنة من اللبنانيين، ولكن الثابت أنه يرتكب "خطيئة" لو كان مضى في إصراره على الاعتكاف أو التلويح بهذا الخيار، ولو أنه لم يتراجع عن "الإجراء الإداري"، وفق توصيفه هو، الذي سبّب هذا الانقسام وردة الفعل الرافضة.
كل الذين هم على تواصل يومي مع الرئيس ميقاتي يخرجون باستنتاج فحواه أنه رغم هدوء العاصفة الناجمة عن إجرائه، فإنه ما انفك "يستشعر الجرح والإحباط" فهو لم يكن كما ينقل عنه يتصوّر أنه سيبلغ يوماً يصير فيه هو شخصياً محور انقسام واضطراب في البلد بفعل إجراء معيّن اتخذه.
وبناءً على ذلك يصرح ميقاتي أمام زواره بأن ثمة "ظلماً وقع عليه ولحق به " من دون أن يكون بيّت في صدره "نيّة جرمية" حينما قرّر المضيّ في هذا الإجراء الإشكالي – الخلافي. لذا فإنه لا يخفي أن من حقه البوح بالشكوى من ظلم الآخرين له عندما حاصروه بالتهمة نفسها وحمّلوه مسؤولية انزلاق الاوضاع في البلاد نحو الهاوية والاحتراب، مع علمهم اليقيني أنه الاكثر حرصاً على ديمومة العلاقة الايجابية والمنفتحة معهم ومع مرجعياتهم، فضلاً عن أن الرجل وجد نفسه في ذروة الهجمة عليه شبه وحيد فلا من ينصره ولا من ينصفه ويدرأ كيل الاتهامات له لأنه ليس من النوع الذي يهوى توسّل لعبة التحشيد والتجييش والوفود التي تأتي بقصد تظهير الدعم له فهو المعروف بأنه ليس من السعاة لزعامة ما أو أن يكون بديلاً من غائب.
ولكن لأنه، وفق ما ينقل زواره عنه، حمّله الآخرون وحده تبعة إجراء إداري هو في الأساس جزء من صلب صلاحياته فبدا في المحصلة كأنه "كاسر مزراب العين" الذي يتعيّن أن يؤثم ويغرم، فيما تنصّل الشركاء في المسؤولية والحكم واتخاذ القرار وما لبثوا أن احتجبوا وتواروا عن الانظار طوال أيام العاصفة التي هبّت.
ولكن التعبير عن واقع الحال هذا شيء يطول التكهّن والاجتهاد حوله وحول خلفياته وخفاياه، ومسألة إعلان الاعتكاف كرد فعل على كلا الامرين شيء آخر لن يجاريه فيه كثر خصوصاً أن الأمر تكرّر فبدا ميقاتي الذي يفترض أنه متجذر وضالع في تجارب الحكم ولا سيما في المراحل الانتقالية وكأنه "مستعار" لفترة معيّنة.
الشكوى التي يجهر بها الرئيس ميقاتي أمام صفوة زواره صارت معروفة، فهو يقول إن عملية وضع العصيّ في دواليب مهمته ليست متأتية فحسب من "معركة الساعتين والتوقيتين" على أهميتها، إذ إن لعبة العرقلة وتعمّد وضع العوائق أمامه ملازمة له منذ أن كُلف بتأليف حكومته التي أضحت حالياً بعد الشغور الرئاسي حكومة تصريف أعمال.
فممتهنو لعبة العرقلة هؤلاء، يضيف زوار ميقاتي، لم يتركوا له فرصة لتنفيذ طموحه المشروع الى:
- تدوير الزوايا ووضع الأسس اللازمة للحفاظ على ما بقي من مؤسسات الدولة المتهالكة وتأمين عملها.
- ووضع الأسس الضرورية لمرحلة الانفراجات الآتية ساعتها ولا ريب خصوصاً بعد كل التدابير التي نفذتها الحكومة بهذا الشأن...
ولدى زوار ميقاتي برهان حسّي حديث على ما يشكو منه، ودليل موضوعي على اقتحامه الصعاب تلمساً للحلول، إذ إنه كان مقرراً في جلسة حكومة تصريف الأعمال الاثنين الماضي (التي بادر الى إلغائها في رد فعل على الاعتراض على تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي طوال شهر رمضان) أن يُدرس أمران طارئان، الاول كما هو معلوم مسبقاً درس إدخال زيادات على رواتب العاملين في القطاع العام عبر إجراءات وتدابير تكتسب معها هذه الزيادات صفة الديمومة، والثاني بقي طيّ الكتمان ويتصل بمعالجة أزمة القطاع المصرفي الذي يرفع صوته بالشكوى. وقد كان ثمة تفاهم مع جمعية المصارف يهدف الى إنهاء مسألة إضراب هذا القطاع عبر تنظيم العلاقة مع الدولة والقضاء بالتعاون مع حاكمية مصرف لبنان، والهدف هو ترييح السوق وإحداث انفراجات على المستويين المالي والنقدي.
ولكن ما يدعو للأسف والأسى في وجدان ميقاتي أنه بات موقناً من صحة فرضية أن ثمة من لا يريد للحكومة والدولة عموماً أن تلتقط أنفاسها وتبحث عن الضوء لمعالجة الملفات والقضايا المتراكمة، لذا فهو يستمرئ مشهد هذا التعطيل والشلل الحاصل.
لا ينكر ميقاتي أمام زواره أنه عندما التقط "كرة نار الحكم قبل أكثر من عامين" كان يعي تماماً خصوصية المرحلة وحجم التحديات التي تنتظره وجسامة المهمات الملقاة على عاتقه، ولكنه لم يكن يتصوّر أنه دخل "حقل ألغام" وأن البعض من الأفرقاء المتصارعين سيستخدمه كـ"كيس ملاكمة" لتصفية الحسابات في ما بينهم.
يقر ميقاتي أيضاً بأنه سبق له أن ترأس حكومتين في ظل أوضاع بالغة الصعوبة وفي ظل انقسامات حادة لكن رغم ذلك لم تبلغ الأمور آنذاك (في عام 2004 و2011) هذا المستوى من التردّي واستتباعاً لم يكن الأفرقاء المتصارعون يتعاملون مع بعضهم بذهنية "يا قاتل يا مقتول" وبذهنية "الاجتثاث" فيمعن بالمكابرة والمعاندة على نحو يصير معه المشهد السياسي عبارة عن "حفلة نكد" يشعر معها اللاعبون والمشاركون بأن قوّتهم تُستمدّ من صوتهم العالي ومن الضجيج والصخب الذي يحدثونه، والذي يعلو عندهم على أي اعتبارات وطنية.
وما يرفع من مستوى الاسف والاستغراب عند ميقاتي اتهام البعض له بأنه صار ظلاً لرئيس مجلس النواب نبيه بري وأنه ينفذ توجيهاته ويقف على خاطره، وهم بذا يتغافلون عن عمد ولغايات في نفس يعقوب عن أمرين:
- أن التنسيق مع رئيس السلطة التشريعية ومع مرجعية سياسية لها هذا الدور والوزن تغدو من أولى المهمات لإدارة الازمات.
- أن عدداً من الوزراء المحسوبين على فريق بعينه يرفضون التعاون وحضور جلسات الحكومة كما ينبغي تحت شعارات شتى.
وبناءً على ذلك لم يكن تلويح ميقاتي بالاعتكاف أو الانسحاب كما ينقل زوّاره عنه ترفاً أو "دلعاً" أو حتى تهرّباً من تحمّل المسؤولية بقدر ما هو تعبير عن أمرين:
الأول الرغبة في إحداث صدمة عسى أن تبرد الرؤوس الحامية وتعيدها الى جادة التعقل والحكمة.
الثاني لكي يضع الجميع أمام مسؤولياتهم وضمائرهم ولا سيما أن البعض أغوته لعبة الشعبوية فاشتطّ وشطح الى درجة ترويج مقولات من نوع أن "الثنائية الإسلامية" ساعية الى القبض على زمام الأمور.
وبناءً على كل هذه الاعتبارات ذكر ميقاتي بقول "اللهم اشهد أني بلّغت" قارناً كلامه هذا بالدعوة المضمرة الى تحريره ممّا هو ملقى على عاتقه من خلال الدعوة الى انتخاب عاجل لرئيس جمهورية يفتح الآفاق أمام تأليف حكومة جديدة تتولى كامل صلاحياتها.